حرصت المملكة العربية السعودية في السنوات الأخيرة على تعزيز جودة الحياة وتنظيم السلوك العام بما يتماشى مع الهوية الوطنية. وفي هذا السياق، صدر نظام الذوق العام بموجب المرسوم الملكي رقم (م/44) وتاريخ 4 شعبان 1440هـ، ليشكّل أداة تنظيمية تهدف إلى ضبط التصرفات التي تُخل بالمظهر العام في الأماكن العامة.
وقد أسندت اللائحة التنفيذية لهذا النظام إلى عدد من الجهات الرسمية، منها: وزارة الداخلية، ووزارة الإعلام، وهيئة الترفيه، وهيئة السياحة. وتطبق أحكامه على جميع الأشخاص داخل المملكة، سواء كانوا مواطنين أو مقيمين أو زائرين.
مفهوم الإخلال بالذوق العام: كيف يُعرّف قانوناً؟
قد يتساءل البعض: ما المقصود فعلاً بمصطلح “الإخلال بالذوق العام”؟
بحسب التعريفات النظامية، يُقصد به كل سلوك يُرتكب في مكان عام، ويتنافى مع احترام الآخرين أو يتعارض مع قيم المجتمع السعودي وأعرافه.
ويشمل هذا المفهوم سلوكيات متنوعة، مثل: استخدام ألفاظ خادشة، وارتداء ملابس غير لائقة، والتصرف بعدوانية في الأماكن العامة، أو ترك النفايات في غير مواضعها.
تُعتبر هذه الأفعال – حتى وإن كانت غير جنائية – منافية لقواعد الذوق العام، وتستوجب المعالجة النظامية وفقاً للائحة التنفيذية، لما لها من تأثير مباشر على الانطباع العام، والنظام الاجتماعي، وحتى على الجاذبية السياحية والاقتصادية.
ما هي أبرز مخالفات الذوق العام في السعودية؟
تشمل قائمة المخالفات المحددة في اللائحة التنفيذية العديد من الأفعال التي تمس النظام العام والسلوكيات المتحضرة، منها على سبيل المثال لا الحصر:
- ارتداء ملابس غير محتشمةأو تتضمن رموزاً مسيئة أو عبارات فاحشة.
- التلفظ بكلمات نابية أو استخدام إشارات غير لائقةفي الأماكن العامة.
- تشغيل الموسيقى أو الأصوات الصاخبةفي الأماكن المفتوحة بطريقة تزعج الآخرين.
- الرسم أو الكتابة على الجدران أو الممتلكات العامةدون تصريح.
- التبول أو قضاء الحاجة في الأماكن العامة، وهو من الأفعال التي تُعد مخالفة صريحة وتُغرم فوراً.
- إلقاء النفايات أو بقايا الأطعمة خارج الحاويات المخصصة.
- إشعال النار في الأماكن العامة دون مبرر أو ترخيص.
وقد صُممت هذه القائمة لتكون مرنة وقابلة للتحديث، إذ يمكن للجهات المختصة إضافة مخالفات جديدة بحسب ما تقتضيه الظروف والسياق الاجتماعي.
ما هي عقوبة مخالفة الذوق العام في السعودية وفق التعديلات الجديدة لعام 1446هـ؟
أقرت اللائحة التنفيذية لنظام الذوق العام في المملكة عقوبات مالية تختلف باختلاف نوع المخالفة، ومدى تكرارها، وجسامة الأثر المترتب عليها.
وبحسب آخر التعديلات الصادرة في عام 1446هـ (2025م)، فإن الغرامات تبدأ من50 ريالاً سعودياً، وقد تصل إلى 3000 ريال سعودي للمخالفة الواحدة، ويُسمح بمضاعفة العقوبة في حال التكرار خلال سنة من تاريخ المخالفة الأولى.
يُمنح رجال الضبط الميداني صلاحية تحرير المخالفة إلكترونياً، على أن يتم تسليم نسخة للمخالف، ويجوز له التظلم أمام لجنة النظر في مخالفات الذوق العام خلال 10 أيام.
وتُعد هذه العقوبات إدارية في طبيعتها، وليست جنائية، إلا إذا اقترنت بأفعال يعاقب عليها نظاماً، مثل الإضرار بالممتلكات العامة أو الاعتداء على الآخرين، فيتم حينها الإحالة للنيابة العامة.
هل ارتداء “الشورت” يعتبر مخالفة للذوق العام في المملكة؟
يُثار كثير من الجدل حول مسألة ارتداء “الشورت” في الأماكن العامة، خاصة من قبل السياح أو الزوار.
وللإجابة بدقة: نظام الذوق العام لا يُجرّم ارتداء الشورت بحد ذاته، ولكنه يُقيّده في حال كان مخلاً بالحشمة أو في أماكن رسمية أو عائلية أو دينية لا يُناسب الظهور فيها بملابس قصيرة.
وتُترك تقديرات المخالفة في هذه الحالات لتقدير الجهات الضبطية، مع الأخذ بعين الاعتبار الزمان والمكان ونوع الفعالية.
لذلك، يُنصح الزوار والمواطنون على حد سواء بالالتزام باللباس المحتشم، خاصة في الأماكن العائلية والمجمعات التجارية، لتفادي الوقوع تحت طائلة المخالفات.
غرامة التبول في الطريق العام في السعودية:
يُعد التبول في الأماكن العامة من أشد المخالفات تأثيراً على الذوق العام، ويواجه مرتكبها غرامة مالية تتراوح بين500 إلى 1000 ريال سعودي، وقد تُضاعف في حال التكرار.
وتشمل هذه المخالفة كل من يستخدم الأرصفة، ومداخل المباني، أو الزوايا العامة لقضاء الحاجة، دون اللجوء إلى دورات المياه المخصصة.
ويُصنف هذا الفعل كتشويه مباشر للمشهد الحضري وإخلال بالآداب العامة، ويُعامل بصرامة من قبل الجهات المختصة، لا سيما في المدن الكبرى والمناطق السياحية.
ما الملابس الممنوعة في السعودية بموجب نظام الذوق العام؟
نصت اللائحة التنفيذية على ضرورة التزام الجميع باللباس المحتشم والمتوافق مع الذوق العام.
ولا تُحدد اللائحة نوعاً محدداً من “الملابس الممنوعة”، لكنها تحظر كل ما يلي:
- الملابس التي تحمل صوراً أو شعارات مسيئةللدين أو الثقافة المحلية.
- الملابس التي تكشف أجزاءً من الجسدبشكل غير لائق أو فاضح.
- ارتداء ملابس النوم، أو “البيجامات” في المرافق العامة والمولات.
- ارتداء الملابس الشفافة أو الضيقة بشكل مفرط، خاصة في الأماكن العائلية.
وتُعامل هذه السلوكيات كمخالفات تستوجب غرامات، وتختلف بحسب طبيعة اللباس والمكان والزمان، ويتم رصدها من قِبل دوريات الشرطة أو الجهات المختصة بالرقابة على الذوق العام.
الجهات المختصة بتنفيذ النظام وآليات الضبط الميداني:
تعمل حكومة المملكة العربية السعودية على تطبيق نظام الذوق العام من خلال منظومة متكاملة من الجهات الرسمية، يتصدرها:
- وزارة الداخلية(عبر رجال الأمن ودوريات الشرطة).
- وزارة الإعلام(للتوعية المجتمعية).
- هيئة الترفيه وهيئة السياحة(في الفعاليات والمرافق العامة).
تقوم هذه الجهات بتعيين موظفين ميدانيين معتمدين لرصد المخالفات وضبطها إلكترونياً، ويُمنح لهم صلاحية تحرير محاضر مباشرة من خلال تطبيقات رقمية مرتبطة بنظام الأمن العام.
وتتم المعالجة وفق سلسلة منظمة تبدأ بالإنذار (في بعض الحالات)، ثم تحرير المخالفة، فإشعار المخالف، وأخيراً منحه حق التظلم أمام لجنة النظر في مخالفات الذوق العام خلال 10 أيام من تاريخ البلاغ.
الفرق بين مخالفة الذوق العام والعقوبة الجنائية:
قد يظن البعض أن كل مخالفة للذوق العام تعني بالضرورة وجود “جريمة” تستوجب المحاكمة.
لكن الواقع النظامي يُفرّق بوضوح بين المخالفة الإدارية وبين الجرائم الجنائية.
فالمخالفة – كما هو الحال في التبول في الطريق العام أو ارتداء ملابس غير لائقة – تعالج عن طريق غرامات إدارية فقط، ولا تُقيد في السجل الجنائي للمخالف، ما لم تُقترن بفعل جنائي مستقل مثل: التحرش، أو الاعتداء، أو التخريب المتعمد.
ويُعد هذا التمييز أحد عناصر القوة في النظام، إذ يُوازن بين الحفاظ على النظام العام، وتجنب التشدد في القضايا البسيطة.
أثر نظام الذوق العام على السياحة والاستثمار:
يمثّل نظام الذوق العام أداة داعمة لبيئة الاستثمار والسياحة في المملكة، خاصة في ظل رؤية 2030، التي تسعى إلى جعل المدن السعودية من بين أفضل 10 وجهات للعيش والعمل عالمياً.
فالمستثمر يبحث دائماً عن بيئة قانونية واضحة، تحافظ على النظام، وتحمي المرافق العامة، وتُقدّر التنوع الثقافي دون الإخلال بالثوابت.
ومن خلال فرض الذوق العام، تضمن المملكة أن يكون الفضاء العام منظماً، وآمناً، وملائماً لجميع الفئات: العائلات، والسياح، والموظفين، مما يعزز ثقة المستثمر المحلي والأجنبي على حد سواء.
وبحسب تقرير الهيئة العامة للإحصاء لعام 2023، فقد شهدت المملكة زيادة بنسبة37% في عدد الزوار الأجانب مقارنة بالعام السابق، وهو ما يعكس أثر الإجراءات التنظيمية، ومن ضمنها نظام الذوق العام، في تحسين جودة التجربة السياحية.
أبرز المخالفات المسجلة خلال السنوات الأخيرة: قراءة في الأرقام
تُظهر التقارير الأمنية الصادرة عن الجهات المختصة أن عدد مخالفات الذوق العام المسجلة في المملكة قد شهد ارتفاعاً ملحوظاً خلال عامي 2022 و2023م، وهو ما يعكس في جانب منه تفعيل أدوات الرقابة الإلكترونية والميدانية، إلى جانب التوسع الحضري وتزايد عدد الفعاليات العامة.
وبحسب ما نُشر عن وزارة الداخلية وهيئة الترفيه، فإن أكثر المخالفات شيوعاً تمثلت في:
- ارتداء ملابس غير محتشمة في المجمعات التجارية.
- رفع الصوت بالموسيقى في الأماكن العامة.
- التبول أو قضاء الحاجة في الشوارع والمواقف العامة.
- التدخين في أماكن غير مخصصة.
- إشعال النار في الحدائق العامة والشواطئ.
وقد تجاوز إجمالي الغرامات المحصلة من مخالفات الذوق العام في بعض المدن الكبرى مثل الرياض وجدة عشرة ملايين ريال سعودي خلال عام 2023 فقط، مما يشير إلى جدية الدولة في تنفيذ النظام وضبط المخالفات.
الذوق العام كأداة لتحسين جودة الحياة والمشهد الحضري:
يُعد نظام الذوق العام أكثر من مجرد قائمة محظورات، فهو أحد الأعمدة القانونية التي تسهم في تحقيق مستهدفات جودة الحياة ضمن رؤية المملكة 2030.
فمن خلال فرض معايير للسلوك العام، تتمكن الدولة من بناء بيئة حضرية أكثر تنظيماً واحتراماً للآخرين، وتوفر مناخاً راقياً يمكن للجميع – مواطنين وسياحاً – التفاعل فيه بأمان وارتياح.
هذا النظام لا يقيد الحرية الشخصية، بل يوجّهها نحو المساحة التي لا تضر الآخرين ولا تسيء إلى الصورة الثقافية العامة، خصوصاً في المرافق المفتوحة والمناطق السياحية.
دليل الامتثال لنظام الذوق العام: توصيات لأصحاب المنشآت التجارية
تواجه الشركات والمراكز التجارية والمطاعم تحدياً حقيقياً في ضبط سلوكيات الزوار داخل منشآتها. ومن هذا المنطلق، يُنصح أصحاب المنشآت في المملكة باتباع عدد من الممارسات الوقائية، من أبرزها:
- وضع لوحات إرشادية توضح ما يُعد مخالفاً للذوق العام داخل المنشأة.
- تدريب الموظفين (خاصة الأمن الداخلي) على التعامل النظامي مع المخالفين.
- التنسيق مع الجهات الأمنية في حال تكرار السلوكيات المخلة.
- التوعية المستمرة للزوار من خلال وسائل العرض الرقمية.
- إدراج بند في سياسة الاستخدام الداخلي يربط بين السلوك العام وإمكانية تقديم الخدمة.
يساعد هذا الامتثال في تجنب الغرامات، ويحمي المنشأة من السمعة السلبية، كما يُظهر التزاماً بمسؤوليتها الاجتماعية، ويُعزز من ثقة الجهات الحكومية بها.
إن نظام الذوق العام في المملكة العربية السعودية يمثل تحولاً نوعياً في التنظيم المدني والاجتماعي، ويعكس حرص الدولة على ترسيخ بيئة تحترم القيم وتُحسن من جودة الحياة.
وقد أثبت هذا النظام فاعليته في حماية الفضاء العام، والحد من السلوكيات التي تخل بالسلم المجتمعي، كما أصبح أداة مهمة لتعزيز ثقة المستثمر المحلي والأجنبي على حد سواء.
ولا تقتصر أهمية النظام على الجانب السلوكي فحسب، بل تمتد إلى التأثير المباشر في المشهد الاقتصادي والسياحي، من خلال خلق مدن أكثر جذباً للزيارة والاستثمار، وأقل عُرضة للفوضى أو التصرفات المخالفة.
ومن هنا، فإن فهم هذا النظام والالتزام به ليس مسؤولية فردية فقط، بل يقع كذلك على عاتق المؤسسات والمنشآت التجارية التي تمثل الواجهة التنظيمية لحياة المدينة الحديثة.